القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : ( قل أعوذ برب الناس ( 1 ) ملك الناس ( 2 ) إله الناس ( 3 ) من شر الوسواس الخناس ( 4 ) الذي يوسوس في صدور الناس ( 5 ) من الجنة والناس ( 6 ) ) .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد أستجير ( برب الناس ملك الناس ) وهو ملك جميع الخلق : إنسهم وجنهم ، وغير ذلك ، إعلاما منه بذلك من كان يعظم الناس تعظيم المؤمنين ربهم أنه ملك من يعظمه ، وأن ذلك في ملكه وسلطانه ، تجري عليه قدرته ، وأنه أولى بالتعظيم ، وأحق بالتعبد له ممن يعظمه ، ويتعبد له ، من غيره من الناس .
وقوله : ( إله الناس ) يقول : معبود الناس ، الذي له العبادة دون كل شيء سواه .
وقوله : ( من شر الوسواس ) يعني : من شر الشيطان ( الخناس ) الذي يخنس مرة ويوسوس أخرى ، وإنما يخنس فيما ذكر عند ذكر العبد ربه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا يحيى بن عيسى ، عن سفيان ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما من مولود إلا على قلبه الوسواس ، فإذا عقل فذكر الله خنس ، وإذا غفل وسوس ، قال : فذلك قوله : ( الوسواس الخناس ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن سفيان ، عن ابن عباس ، في قوله ( الوسواس الخناس ) قال : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها [ ص: 710 ] وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس .
قال : ثنا مهران ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ( الوسواس الخناس ) قال : ينبسط فإذا ذكر الله خنس وانقبض ، فإذا غفل انبسط .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله ( الوسواس الخناس ) قال : الشيطان يكون على قلب الإنسان ، فإذا ذكر الله خنس .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( الوسواس ) قال : قال هو الشيطان ، وهو الخناس أيضا ، إذا ذكر العبد ربه خنس ، وهو يوسوس ويخنس .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( من شر الوسواس الخناس ) يعني : الشيطان ، يوسوس في صدر ابن آدم ، ويخنس إذا ذكر الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن أبيه ، قال : ذكر لي أن الشيطان - أو قال الوسواس - ينفث في قلب الإنسان عند الحزن وعند الفرح ، وإذا ذكر الله خنس .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( الخناس ) قال : الخناس الذي يوسوس مرة ، ويخنس مرة من الجن والإنس ، وكان يقال : شيطان الإنس أشد على الناس من شيطان الجن ، شيطان الجن يوسوس ولا تراه ، وهذا يعاينك معاينة .
وروي عن ابن عباس رضى الله عنه أنه كان يقول في ذلك ( من شر الوسواس ) الذي يوسوس بالدعاء إلى طاعته في صدور الناس ، حتى يستجاب له إلى ما دعا إليه من طاعته ، فإذا استجيب له إلى ذلك خنس .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله ( الوسواس ) قال : هو الشيطان يأمره ، فإذا أطيع خنس .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ به من شر شيطان يوسوس مرة ويخنس أخرى ، ولم يخص وسوسته على نوع من أنواعها ، ولا خنوسه على وجه دون وجه ، وقد يوسوس بالدعاء إلى معصية الله ، [ ص: 711 ] فإذا أطيع فيها خنس ، وقد يوسوس بالنهي عن طاعة الله فإذا ذكر العبد أمر ربه فأطاعه فيه ، وعصى الشيطان خنس ، فهو في كل حالتيه وسواس خناس ، وهذه الصفة صفته .
وقوله : ( الذي يوسوس في صدور الناس ) يعني بذلك : الشيطان الوسواس ، الذي يوسوس في صدور الناس : جنهم وإنسهم .
فإن قال قائل : فالجن ناس ، فيقال : الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس . قيل : قد سماهم الله في هذا الموضع ناسا ، كما سماهم في موضع آخر رجالا فقال : ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ) فجعل الجن رجالا وكذلك جعل منهم ناسا .
وقد ذكر عن بعض العرب أنه قال وهو يحدث ، إذ جاء قوم من الجن فوقفوا ، فقيل : من أنتم ؟ فقالوا : ناس من الجن ، فجعل منهم ناسا ، فكذلك ما في التنزيل من ذلك .
من جوجل(تفسير الطبري)